فصل: من لطائف القشيري في السورة الكريمة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري في السورة الكريمة:

قال عليه الرحمة:
سورة الجن:
قوله جل ذكره: (بسم الله الرحمن الرحيم)
(بسم الله) اسم عزيز به أقر من أقر بربوبيته، وبه أضر من أصر على معرفته، وبه استقر من استقر من خليقته، وبه ظهر ما ظهر من مقدوراته، وبه بطن ما بطن من مخلوقاته، فمن جحد فبخذلانه وحرمانه، ومن وحد فبإحسانه وامتنانه.
قوله جل ذكره: {قل أوحي إليّ أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا}
قيل: إن الجنّ كانوا يأتون السماء فيستمعون إلى قول الملائكة، فيحفظونه، ثم يلقونه إلى الكهنة، فيزيدون فيه وينقصون... وكذلك كانوا في الفترة التي بين نبيِّنا صلى الله عليه وسلم وبين عيسى عليه السلام. فلمّا بُعِث نبيُّنا صلى الله عليه وسلم ورُجِمُوا بالشُّهُبِ علِم إبليس أنه وقع شيءٌ ففرّ جنوده، فأتى تسعةٌ منهم إلى بطن نخلة واستمعوا قراءته صلى الله عليه وسلم فآمنوا، ثم آتوا قومهم وقالوا: {إنّا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به...} إلى آخر الآيات.
وجاءه سبعون منهم وأسلموا وذلك قوله تعالى: {وإِذْ صرفْنآ إِليْك نفرا مِّن الْجِنِّ..} [الأحقاف: 29].
قوله جلّ ذكره: {وأنّهُ تعالى جدُّ ربِّنا ما اتّخذ صاحِبة ولا ولدا} الجدّ العظمة، والعظمةُ استحقاقُ نعوتِ الجلال..
{وأنّهُ كان يقول سفِيهُنا على اللّهِ شططا}.
أراد بالسفيه الجاهل بالله يعني إبليس. والشطط السّرف.
{وأنّا ظننّآ أن لّن تقول الإِنسُ والْجِنُّ على اللّهِ كذِبا}.
في كفرهم وكلمتهم بالشِّرك.
{وأنّهُ كان رِجالٌ مِّن الإِنسِ يعُوذُون بِرِجالٍ مِّن الْجِنِّ فزادُوهُمْ رهقا}.
أي ذِلة وصغارا؛ فالجنُّ زادوا للإنس ذِلّة ورهقا فكانوا إذا نزلوا يقولون: نعوذ بربِّ هذا الوادي فيتوهم الجنُّ انهم على شيء {فزادُوهُمْ رهقا} حيث استعاذوا بهم.
قوله جلّ ذكره: {وأنّهُمْ ظنُّوا كما ظننتُمْ أن لّن يبْعث اللّهُ أحدا}.
أي ظنُّوا كما ظنّ الكفارُ من الجن ألاّ بعث ولا نشور- كما ظننتم إيها ألإنس.
{وأنّا لمسْنا السّماء فوجدْناها مُلِئتْ حرسا شدِيدا وشُهُباُ}.
يعني حين منعوا عن الاستماع.
{وأنّا كُنّا نقْعُدُ مِنْها مقاعِد لِلسّمعِ فمن يسْتمِعِ الأن يجِدْ لهُ شهابا رّصدا}.
فالآن قد مُنِعْنا.
{وأنّا لاندْرِى أشرٌّ أُرِيد بِمن في الأرْضِ أمْ أراد بِهِمْ ربُّهُمْ رُشدا}.
{وألّوِ اسْتقامُوا على الطّرِيقةِ لأسْقيْناهُمْ ماء غدقا (16)}
الاستقامة على الطريقة تقتضي إكمال النعمةِ وإكثار الراحةِ. والإعراضُ عن الله يُوجِب تنغُّص العيْشِ ودوام العقوبة.
قوله جلّ ذكره: {وأنّ المساجِد لِلّهِ فلا تدْعُوا مع اللّهِ أحدا}
للمسجد فضيلة، ولهذا خصّه الله سبحانه وأفرده بالذكر من بين البقاع؛ فهو محلُّ العبادة.. وكيف يُحلُّ العابد عنده إذا حلّ محلّ قدمِه؟!.
ويقال: أراد بالمساجد الأعضاء التي يسجد عليها، أخبر أنها لله، فلا تعبدوا بما للّهِ غيْر الله.
قوله جلّ ذكره: {وأنّهُ لمّا قام عبْدُ اللّهِ يدْعُوهُ كادُواْ يكُونُون عليْهِ لِبدا}.
لما قام عبد الله يعني محمدا عليه السلام يدعو الخلْق إلى الله كاد الجنُّ والإنس يكونون مجتمعين عليه، يمنعونه عن التبليغ.
{قُلْ إِنِّي لا أمْلِكُ لكُمْ ضرّا ولا رشدا (21) قُلْ إِنِّي لنْ يُجِيرنِي مِن اللّهِ أحدٌ ولنْ أجِد مِنْ دُونِهِ مُلْتحدا (22) إِلّا بلاغا مِن اللّهِ ورِسالاتِهِ ومنْ يعْصِ اللّه ورسُولهُ فإِنّ لهُ نار جهنّم خالِدِين فِيها أبدا (23)}
قل يا محمد:
{قُلْ إِنِّى لآ أمْلِكُ لكُمْ ضرّا ولا رشدا قُلْ إِنِّى لن يُجِيرنِى من اللّهِ أحدٌ ولنْ أجِد مِن دُونِهِ مُلْتحدا}.
لا أقدر أن أدفع عنكم ضرّا، أو أسوق لكم خيرا... فكل شيء من الله. ولن أجد من دونه ملتجأ:
{إِلاّ بلاغا مِّن اللّهِ ورِسالاتِهِ}.
فلن يُنجِّينِي من الله إلا تبليغي رسالاته بأمره.
{ومن يعْصِ اللّه ورسُولهُ فإِنّ لهُ نار جهنّم خالِدِين فِيهآ أبدا}.
{قُلْ إِنْ أدْرِي أقرِيبٌ ما تُوعدُون أمْ يجْعلُ لهُ ربِّي أمدا (25)}
أي: لا أدْري ما تُوعدون من العقوبة، ومن قيام الساعة أقريب أم بعيد؟ فكونوا على حذرٍ. ويجب أنْ يتوقّع العبدُ العقوبات أبدا مع مجاري الأنفاس ليسلم من العقوبة.
قوله جلّ ذكره: {عالِمُ الغيْب فلا يُظْهِرُ على غيْبِهِ أحدا إِلاّ منِ ارْتضى مِن رّسُولٍ}.
فيطلعه بقدْرِ ما يريده.
{لِّيعْلم أن قدْ أبْلغُواْ رِسلاتِ ربِّهِمْ وأحاط بِما لديْهِمْ وأحْصى كُلّ شيء عددا}.
أرسل مع الوحي ملائكة قُدّامه وخلْفه.. هم ملائكةٌ حفظه، يحفظون الوحي من الكهنة والشياطين، حتى لا يزيدوا أو ينقصوا الرسالاتِ التي يحملها... واللّه يعلم ذلك، وأحاط عِلْمُه به. اهـ.

.من فوائد ابن العربي في السورة الكريمة:

قال رحمه الله:
سورة الجن فِيها آيتانِ:
الْآيةُ الْأُولى قوله تعالى: {قُلْ أوحي إليّ أنّهُ اسْتمع نفرٌ مِنْ الْجِنِّ فقالوا إنّا سمِعْنا قرآنا عجبا} إلى: {هربا} فِيها سِتُّ مسائِل:
المسألة الْأُولى:
فِي حقِيقةِ الْجِنِّ، وقدْ بيّنّاها فِي كُتُبِ الْأُصُولِ، وأوْضحْنا أنّهُمْ أحدُ خلْقِ الْأرْضِ، أُنْزِل أبُوهُمْ إبْلِيسُ إليْها، كما أُنْزِل أبُونا آدم، هذا مرْضِيٌّ عنْهُ، وهذا مسْخُوطٌ عليْهِ.
وقدْ روى عِكْرِمةُ، عنْ ابْنِ عبّاسٍ أنّ الْجانّ مسْخُ الْجِنِّ، كما مُسِختْ الْقِردةُ مِنْ بنِي إسْرائِيل.
وقال شيْخُنا أبُو الْحسنِ فِي كِتابِ الْمُخْتزِنِ: إنّ إبْلِيس كان مِنْ الْملائِكةِ، ولمْ يكُنْ مِنْ الْجِنِّ.
ولسْت أرْضاهُ، وقدْ بيّنّا ذلِك فِي كُتُبِ الْأُصُولِ.
المسألة الثّانِيةُ:
روى سعِيدُ بْنُ جُبيْرٍ، عنْ ابْنِ عبّاسٍ، قال: «ما قرأ رسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم على الْجِنِّ ولا رآهُمْ انْطلق رسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم فِي طائِفةٍ مِنْ أصْحابِهِ عامِدِين إلى سُوقِ عِكاظٍ، وقدْ حِيل بيْن الشّياطِينِ وبيْن خبرِ السّماءِ، وأُرْسِلتْ عليْهِمْ الشُّهُبُ، فقالوا: ما حال بيْننا وبيْن خبرِ السّماءِ إلّا حدثٌ، فاضْرِبُوا مشارِق الْأرْضِ ومغارِبها، تتْبعُون ما هذا الْخبرُ الّذِي حال بيْنكُمْ وبيْن خبرِ السّماءِ؛ فضربُوا مشارِق الْأرْضِ ومغارِبها، فانْصرف أُولئِك النّفرُ الّذِين توجّهُوا نحْو تِهامة إلى رسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم وهُو بِنخْلة عامِدا إلى سُوقِ عِكاظٍ وهُو يُصلِّي بِأصْحابِهِ صلاة الْفجْرِ، فلمّا سمِعُوا القرآن اسْتمعُوا لهُ، فقالوا: هذا واللّهِ الّذِي حال بيْننا وبيْن خبرِ السّماءِ. قال: فهُناك رجعُوا إلى قوْمِهِمْ، وقالوا: يا قوْمنا؛ {إنّا سمِعْنا قرآنا عجبا يهْدِي إلى الرُّشْدِ فآمنّا بِهِ ولنْ نُشْرِك بِربِّنا أحدا} فأنْزل اللّهُ تعالى على نبِيِّهِ: {قُلْ أوحي إليّ أنّهُ اسْتمع نفرٌ مِنْ الْجِنِّ} وإِنّما أوحي إليّهِ قول الْجِنِّ».
قال ابْنُ عبّاسٍ: قول الْجِنِّ لِقوْمِهِمْ: {لمّا قام عبْدُ اللّهِ يدْعُوهُ كادُوا يكُونُون عليْهِ لِبدا}؛ قال: لمّا رأوْهُ وأصْحابهُ يُصلُّون بِصلاتِهِ، ويسْجُدُون بِسُجُودِهِ قال: فتعجّبُوا مِنْ طواعِيةِ أصْحابِهِ لهُ، قالوا لِقوْمِهِمْ: {لمّا قام عبْدُ اللّهِ يدْعُوهُ كادُوا يكُونُون عليْهِ لِبدا}.
صحّ ذلِك عنْ النّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ولفْظُهُ لِلتِّرْمِذِيِّ ولفْظُ الْبُخارِيِّ: قال سعِيدُ بْنُ جُبيْرٍ، عنْ ابْنِ عبّاسٍ قال: «انْطلق رسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم فِي طائِفةٍ مِنْ أصْحابِهِ
عامِدِين إلى سُوقِ عِكاظٍ، وقدْ حِيل بيْن الشّياطِينِ وبيْن خبرِ السّماءِ، وأُرْسِلتْ عليْهِمْ الشُّهُبُ، فرجعتْ الشّياطِينُ، فقالوا: ما لكُمْ؟ فقالوا: حِيل بيْننا وبيْن خبرِ السّماءِ، وأُرْسِلتْ عليْنا الشُّهُبُ.
قالوا: ما حال بيْنكُمْ وبيْن خبرِ السّماءِ إلّا حدثٌ، فانْطلقُوا يضْرِبُون مشارِق الْأرْضِ ومغارِبها ينْظُرُون ما هذا الْأمْرُ الّذِي حال بيْنهُمْ وبيْن خبرِ السّماءِ.
قال: فانْطلق الّذِين توجّهُوا نحْو تِهامة إلى رسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم بِنخْلة، وهُو عامِدٌ إلى سُوقِ عِكاظٍ، وهُو يُصلِّي بِأصْحابِهِ صلاة الْفجْرِ.
فلمّا سمِعُوا القرآن سمِعُوا لهُ، فقالوا: هذا الّذِي حال بيْننا وبيْن خبرِ السّماءِ، فهُنالِك رجعُوا إلى قوْمِهِمْ، فقالوا: يا قوْمنا {إنّا سمِعْنا قرآنا عجبا يهْدِي إلى الرُّشْدِ فآمنّا بِهِ ولنْ نُشْرِك بِربِّنا أحدا}.
وأنْزل اللّهُ على نبِيِّهِ: {قُلْ أوحي إليّ أنّهُ اسْتمع نفرٌ مِنْ الْجِنِّ}.
وإِنّما أوحي إليّهِ قول الْجِنِّ»
.
وفِي الصّحِيحِ عنْ علْقمة قال: «قُلْت لِابْنِ مسْعُودٍ: هلْ صحِب النّبِيّ صلى الله عليه وسلم ليْلة الْجِنِّ مِنْكُمْ أحدٌ؟ قال: ما صحِبهُ مِنّا أحدٌ؛ ولكِنْ افْتقدْناهُ ذات ليْلةٍ وهُو بِمكّة، فقُلْنا: اُغْتِيل، اُسْتُطِير، ما فُعِل بِهِ؟ فبِتْنا بِشرِّ ليْلةٍ بات بِها قوْمٌ، حتّى إذا أصْبحْنا أوْ كان فِي وجْهِ الصُّبْحِ إذا نحْنُ بِهِ مِنْ قِبلِ حِراءٍ.
قال: فذكرُوا لهُ الّذِي كانُوا فِيهِ قال: فقال: أتانِي داعِي الْجِنِّ، فأتيْتهمْ فقرأت عليْهِمْ القرآن فانْطلق فأرانا آثارهُمْ وآثار نِيرانِهِمْ»
.
وابْنُ مسْعُودٍ أعْرفُ بِالْأمْرِ مِنْ ابْنِ عبّاسٍ؛ لِأنّهُ شاهدهُ، وابْن عبّاسٍ سمِعهُ؛ وليْس الْخبرُ كالْمُعاينةِ.
المسألة الثّالِثةُ:
قال الشّعْبِيُّ فِي رِوايتِهِ: «وسألُوهُ الزّاد، وكانُوا مِنْ جِنِّ الْجزِيرةِ، فقال: كُلُّ عظْمٍ يُذْكرُ اسْمُ اللّهِ عليْهِ يقعُ فِي أيْدِيكُمْ أوْفر ما كان لحْما، وكُلُّ بعْرةٍ أوْ روْثةٍ علفٌ لِدوابِّكُمْ. فقال رسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: فلا تسْتنْجُوا بِهِ فإِنّهُ زادُ إخْوانِكُمْ مِنْ الْجِنِّ». وقدْ أنْكر جماعةٌ مِنْ كفرةِ الْأطِبّاءِ والْفلاسِفةِ الْجِنّ وقالوا إنّهُمْ بسائِطُ ولا يصِحُّ طعامُهُمْ؛ اجْتِراء على اللّهِ وافْتِراء عليْهِ.
وقدْ مهّدْنا الرّدّ عليْهِمْ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ، وبيّنّا جواز وُجُودِهِمْ عقْلا لِعُمُومِ الْقُدْرةِ الْإِلهِيّةِ، وأوْضحْنا وُجُوب وُجُودِهِمْ شرْعا بِالْخبرِ الْمُتواتِرِ مِنْ القرآن والسُّنّةِ، وأنّ اللّه خلق لهُمْ مِنْ تيسُّرِ التّصوُّرِ فِي الْهيْئاتِ ما خلق لنا مِنْ تيسُّرِ التّصوُّرِ فِي الْحركاتِ؛ فنحْنُ إلى أيِّ جِهةٍ شِئْنا ذهبْنا، وهُمْ فِي أيِّ صُورةٍ شاءُوا تيسّرتْ لهُمْ، ووُجِدُوا عليْها، ولا نراهُمْ فِي هيْئاتِهِمْ، إنّما يتصوّرُون فِي خلْقِ الْحيواناتِ.
وقولهُمْ: إنّهُمْ بسائِطُ، فليْس فِي الْمخْلُوقاتِ بسِيطٌ، بلْ الْكُلُّ مُركّبٌ مُزْدوِجٌ، إنّما الْواحِدُ اللّهُ سبحانهُ؛ وغيْرُهُ مُركّبٌ ليْس بِواحِدٍ كيْفما تصرّف حالُهُ؛ وليْس يمْتنِعُ أنْ يراهُمْ النّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي صُورِهِمْ، كما يرى الْملائِكة؛ وأكْثرُ ما يتصوّرُون لنا فِي صُورِ الْحيّاتِ؛ ففِي الْحديث الصّحِيحِ عنْ مالِكٍ وغيْرِهِ عنْ أبِي السّائِبِ موْلى هِشامِ بْنِ زُهْرة «أنّهُ دخل على أبِي سعِيدٍ الْخُدْرِيِّ فِي بيْتِهِ؛ قال: فوجدْته يُصلِّي، فجلسْت أنْتظِرُهُ حتّى تُقْضى صلاتُهُ، فسمِعْت تحْرِيكا فِي عراجِين مِنْ ناحِيةِ الْبيْتِ، فالْتفتّ فإِذا حيّةٌ، فوثبْت لِأقْتُلها، فأشار إليّ أنْ أجْلِس، فجلسْت، فلمّا انْصرف أشار إلى بيْتٍ فِي الدّارِ، فقال: أترى هذا الْبيْت؟ فقال: نعمْ.
فقال: كان فِيهِ فتى مِنّا حديث عهْدٍ بِعُرْسٍ.
قال: فخرجْنا مع رسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم إلى الْخنْدقِ، فكان ذلِك الْفتى يسْتأْذِنُ رسُول اللّهِ صلى الله عليه وسلم بِأنْصافِ النّهارِ، فيرْجِعُ إلى أهْلِهِ، فاسْتأْذنهُ يوْما، فقال لهُ رسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: خُذْ عليْك سِلاحك؛ فإِنِّي أخْشى عليْك قُريْظة.
فأخذ الرّجُلُ سِلاحهُ، ثُمّ رجع، فإِذا امْرأتُهُ بيْن الْبابيْنِ قائِمة، فأهْوى إليْها بِالرُّمْحِ لِيطْعنها بِهِ، وأصابتْهُ غيْرةٌ، فقالتْ لهُ: كُفّ عليْك رُمْحك، وادْخُلْ الْبيْت حتّى تنْظُر ما الّذِي أخْرجنِي، فدخل، فإِذا حيّةٌ عظِيمةٌ مُنْطوِيةٌ على الْفِراشِ، فأهْوى إليْها بِالرُّمْحِ، فانْتظمها، ثُمّ خرج بِهِ فركزهُ فِي الدّارِ، فاضْطربتْ عليْهِ فما ندْرِي أيّهُما كان أسْرع موْتا: الْحيّةُ أمْ الْفتى.
قال: فجِئْنا إلى النّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فذكرْنا لهُ ذلِك، قُلْنا: اُدْعُ اللّه يُحْيِيهِ لنا.
فقال: اسْتغْفِرُوا لِصاحِبِكُمْ، ثُمّ قال: إنّ بِالْمدِينةِ جِنّا قدْ أسْلمُوا، فإِذا رأيْتُمْ مِنْهُمْ شيْئا فآذِنُوهُ ثلاثا، فإِنْ بدا لكُمْ بعْد ذلِك فاقْتُلُوهُ، فإِنّما هُو شيْطانٌ»
.
وفِي الصّحِيحِ أنّهُ صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ لِهذِهِ الْبُيُوتِ عوامِر، فإِذا رأيْتُمْ مِنْها شيْئا فحرِّجُوا عليْها ثلاثا، فإِنْ ذهب وإِلّا فاقْتُلُوهُ، فإِنّهُ كافِرٌ».
أوْ قال: «اذْهبُوا فادْفِنُوا صاحِبكُمْ».
ومِنْ حديث ابْنِ عجْلان عنْ أبِي السّائِبِ عنْ أبِي سعِيدٍ: أنّ رسُول اللّهِ صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ بِالْمدِينةِ نفرا مِنْ الْجِنِّ أسْلمُوا، فمنْ رأى شيْئا مِنْ هذِهِ الْعوامِرِ فلْيُؤْذِنْهُ ثلاثا، فإِنْ بدا لهُ بعْدُ فلْيقْتُلْهُ، فإِنّهُ شيْطانٌ».
وقدْ روى ابْنُ أبِي ليْلى «أنّ رسُول اللّهِ صلى الله عليه وسلم سُئِل عنْ الْحيّاتِ الّتِي تكُونُ فِي الْبُيُوتِ، فقال: إذا رأيْتُمْ مِنْهُنّ شيْئا بعْد ذلِك فقولوا: نشدْتُكُمْ الْعهْد الّذِي أخذ عليْكُمْ نُوحٌ نشدْتُكُمْ الْعهْد الّذِي أخذ عليْكُمْ سُليْمانُ ألّا تُؤْذُونا، فإِنْ رأيْتُمْ مِنْهُنّ شيْئا بعْد ذلِك فاقْتُلُوهُنّ».
المسألة الرّابِعةُ: قال مالِكٌ فِي رِوايةِ ابْنِ وهْبٍ عنْهُ فِي التّقْدِيمِ إلى الْحيّاتِ يقول يا عبْد اللّهِ؛ إنْ كُنْت تُؤْمِنُ بِاللّهِ ورسُولِهِ وكُنْت مُسْلِما فلا تُؤْذِنا ولا تشْعفْنا، ولا تُروِّعْنا، ولا تبْدُونّ لنا، فإِنّك إنْ تبْدُ بعْد ثلاثٍ قتلْتُك.
قال ابْنُ الْقاسِمِ: قال مالِكٌ: يُحرِّجُ عليْهِ ثلاث مرّاتٍ ألّا يبْدُو لنا، ولا يخْرُجُ.
وقال أيْضا عنْهُ: أُحرِّجُ عليْك بِأسْماءِ اللّهِ ألّا تبْدُو لنا.
قال الْقاضِي: ثبت فِي الصّحِيحِ «أنّ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم كان مع أصْحابِهِ فِي غارٍ، وهُو يقرأ: {والْمُرْسلاتِ عُرْفا} وإِنّ فاهُ لرطْبٌ بِها، حتّى خرجتْ حيّةٌ مِنْ غارٍ، فبادرْناها، فدخلتْ جُحْرا، فقال النّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: وُقِيتْ شرّكُمْ، ووُقِيتُمْ شرّها»؛ ولمْ يأْمُرْهُمْ النّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِإِنْذارٍ ولا تحْرِيجٍ لِأنّها لمْ تكُنْ مِنْ عوامِرِ الْبُيُوتِ.
وأمر فِي الصّحِيحِ وغيْرِهِ بِقتْلِ الْحيّاتِ مُطْلقا مِنْ غيْرِ إنْذارٍ ولا تحْرِيجٍ، فدلّ على أنّ ذلِك مِنْ الْإِنْذارِ إنّما هُو لِمنْ فِي الْحضرِ، لا لِمنْ يكُونُ فِي الْقفْرِ، وقدْ ذهب قوْمٌ إلى أنّ ذلِك مخْصُوصٌ بِالْمدِينةِ، لِقولهِ فِي الصّحِيحِ: «إنّ بِالْمدِينةِ جِنّا أسْلمُوا». وهذا لفْظٌ مُخْتصٌّ بِها، فتخْتصُّ بِحُكْمِها.
قُلْنا: هذا يدُلُّ على أنّ غيْرها مِنْ الْبُيُوتِ مِثْلُها؛ لِأنّهُ لمْ يُعلِّلْ بِحُرْمةِ الْمدِينةِ، فيكُونُ ذلِك الْحُكْمُ مخْصُوصا بِها، وإِنّما علّل بِالْإِسْلامِ، وذلِك عامٌّ فِي غيْرِها، ألا ترى قولهُ فِي الْحديث مُخْبِرا عنْ الْجِنِّ الّذِين لقِي؛ فرُوِي أنّهُمْ كانُوا مِنْ جِنِّ الْجزِيرةِ، وهذا بيِّنٌ يُعضِّدُهُ قولهُ: ونهى عنْ عوامِرِ الْبُيُوتِ، وهذا عامٌّ.
المسألة الْخامِسةُ:
اخْتلف النّاسُ فِي إنْذارِهِمْ والتّحْرِيجِ عليْهِمْ: هلْ يكُونُ ثلاثة أقْوالٍ فِي ثلاثةِ أحْوالٍ، أمْ يكُونُ ثلاثة أقْوالٍ فِي حالةٍ واحِدةٍ؟ والْقول مُحْتمِلٌ لِذلِك ولا يُمْكِنُ حمْلُهُ على الْعُمُومِ، لِأنّهُ إثْباتٌ لِمُفْردٍ فِي نكِرةٍ، وإِنّما يكُونُ الْعُمُومُ فِي الْمُفْرداتِ إذا اتّصلتْ بِالنّفْيِ حسْبما بيّنّاهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، وفِيما سبق هاهُنا.
والصّحِيحُ أنّهُ ثلاثُ مرّاتٍ فِي حالةٍ واحِدةٍ؛ لِأنّا لوْ جعلْناها ثلاث مرّاتٍ فِي ثلاثِ حالاتٍ لكان ذلِك اسْتِدْراجا لهُنّ وتعْرِيضا لِمضرّتِهِنّ، ولكِنْ إذا ظهرتْ تُنْذرُ كما تقدّم، فإِنْ فرّتْ وإِلّا أُعِيد عليْها الْقول فإِنْ فرّتْ وإِلّا أُعِيد عليْها الْإِنْذارُ ثلاثا، فإِنْ فرّتْ وإِلّا أُعِيد لها الْإِنْذارُ، فإِنْ فرّتْ وغابتْ وإِلّا قُتِلتْ:
المسألة السّادِسةُ:
قال منْ لمْ يفْهمْ أوْ منْ لمْ يُسْلِمْ: كيْف يُنْذرُ بِالْقول ويُحرّجُ بِالْعهْدِ على الْبهائِمِ والْحشراتِ، وهِي لا تعْقِلُ الْأقْوال، ولا تفْهمُ الْمقاصِد والْأغْراض؟ قُلْنا: الْحيّاتُ على قِسْميْنِ: قِسْمٌ حيّةٌ على أصْلِها، فبيْننا وبيْنها الْعداوةُ الْأصْلِيّةُ فِي مُعاضدةِ إبْلِيس على آدم، وإِلى هذا وقعتْ الْإِشارةُ بِقول النّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «ما سالمْناهُنّ مُنْذُ حاربْناهُنّ».
فهذا الْقِسْمُ يُقْتلُ ابْتِداء مِنْ غيْرِ إنْذارٍ ولا إمْهالٍ وعلامتُهُ الْبتْرُ والطُّفى لِقولهِ صلى الله عليه وسلم: {اُقْتُلُوا الْأبْتر وذا الطُّفْيتيْنِ}؛ فإِنْ كانتْ على غيْرِ هذِهِ الْهيْئةِ احْتمل أنْ تكُون حيّة أصْلِيّة، واحْتمل أنْ تكُون جِنِّيّا تصوّر بِصُورتِها، فلا يصِحُّ الْإِقْدامُ بِالْقتْلِ على الْمُحْتمِلِ، لِئلّا يُصادِف منْهِيّا عنْهُ حسْبما يُرْوى لِلْعرُوسِ بِالْمدِينةِ حِين قتل الْحيّة، فلمْ يُعْلمْ أيُّهُما كان أسْرع موْتا هُو أمْ الْحيّةُ.
ويكْشِفُ هذا الْخفاء الْإِنْذارُ، فإِنْ صرُم كان علامة على أنّهُ ليْس بِمُؤْمِنٍ، أوْ أنّهُ مِنْ جملة الْحيّاتِ الْأصْلِيّاتِ، إذْ لمْ يُؤْذنْ لِلْجِنِّ فِي التّصوُّرِ على الْبتْرِ والطُّفى، ولوْ تصوّرتْ فِي هذا كتصوُّرِها فِي غيْرِهِ لما كان لِتخْصِيصِ النّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِالْإِطْلاقِ بِالْقتْلِ فِي ذيْنِ والْإِنْذارِ فِي سِواهُما معْنى.
وإِنّما تعلّق الْبلِيدُ والْمُرْتابُ بِعدمِ فهْمِهِنّ، فيُقال: إيهٍ اُنْظُرْ إلى التّقْسِيمِ، إنْ كُنْت تُرِيدُ التّسْلِيم لا يخْلُو أنْ تكُون حيّة جِنِّيّة أوْ أصْلِيّة، فإِنْ كانتْ جِنِّيّة فهِي أفْهمُ مِنْك، وإِنْ كانتْ أصْلِيّة فصاحِبُ الشّرْعِ أذِن فِي الْخِطابِ، ولوْ كان لِمنْ لا يفْهمُ لكان أمْرا بِالتّلاعُبِ.
ولا يجُوزُ ذلِك على الْأنْبِياءِ.
فإِنْ شكّ فِي النُّبُوّةِ، أوْ فِي خلْقِ الْجِنِّ، أوْ فِي صِفةٍ مِنْ هذِهِ الصِّفاتِ فلْينْظُرْ فِي الْمُقْسِطِ والْمُتوسِّطِ والْمُشْكِليْنِ يُعايِنُ الشِّفاء مِنْ هذا الْإِشْكالِ إنْ شاء اللّهُ تعالى.
فإِنْ قِيل: إنّما يحْتاجُ الْإِنْذارُ لِلتّفْرِقةِ بيْن الْجانِّ والْحيوانِ، فإِنْ كفّ فهُو جِنٌّ مُؤْمِنٌ، وإِلّا كان كافِرا أوْ حيوانا.
قُلْنا: أمّا الْحيوانُ فقدْ جُعِلتْ لهُ علامةٌ.
وأمّا غيْرُهُ فقدْ خُصّ بِالْإِنْذارِ؛ والْحيوانُ يفْهمُ بِالْإِنْذارِ كما يفْهمُ بِالزّجْرِ؛ ولِهذا تُؤدّبُ الْبهِيمةُ. واللّهُ أعْلمُ.
الْآيةُ الثّانِيةُ قوله تعالى: {وأنّ الْمساجِد لِلّهِ فلا تدْعُوا مع اللّهِ أحدا}
فِيها خمْسُ مسائِل:
المسألة الْأُولى:
الْأرْضُ كُلُّها لِلّهِ مُلْكا وخلْقا، كما قال اللّهُ سبحانهُ وتعالى: {إنّ الْأرْض لِلّهِ يُورِثُها منْ يشاءُ مِنْ عِبادِهِ}.
والْمساجِدُ لِلّهِ رِفْعة وتشْرِيفا، كما قال تعالى: {وأنّ الْمساجِد لِلّهِ فلا تدْعُوا مع اللّهِ أحدا} والْكعْبةُ بيْتُ اللّهِ تخْصِيصا وتعْظِيما، كما قال تعالى: {أنْ طهِّرا بيْتِي لِلطّائِفِين والْعاكِفِين}.
وفِي موْضِعٍ آخر: {والْقائِمِين} فجعل اللّهُ تعالى الْأرْض كُلّها مسْجِدا كما قال صلى الله عليه وسلم: «جُعِلتْ لِي الْأرْضُ مسْجِدا وطهُورا» واصْطفى مِنْها مواضِع ثلاثا بِصِفةِ الْمسْجِدِيّةِ، وهِي: الْمسْجِدُ الْأقْصى وهُو مسْجِدُ إيلِياء، ومسْجِدُ النّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، والْمسْجِدِ الْحرامِ.
واصْطفى مِنْ الثّلاثةِ الْمسْجِد الْحرام فِي قول، ومسْجِد النّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي قول على اخْتِلافٍ فِي أيُّها أفْضلُ، حسْبما بيّنّاهُ فِي مسائِلِ الْخِلافِ.
فقدْ ثبت عنْ النّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أنّهُ قال: «صلاةٌ فِي مسْجِدِي هذا خيْرٌ مِنْ ألْفِ صلاةٍ فِيما سِواهُ إلّا الْمسْجِد الْحرام» واخْتُلِف فِي هذا الِاسْتِثْناءِ؛ هلْ هُو على تفْضِيلِ الْمُفضّلِ أوْ احْتِمالِهِ؟ فمِنْهُمْ منْ قال: إنّهُ مُفضّلٌ بِتفْضِيلِ الْمسْجِدِ الْحرامِ على مسْجِدِ الْمدِينةِ.
ومِنْهُمْ منْ قال إنّهُ مُحْتمِلٌ، وهُو الصّحِيحُ؛ لِأنّ كُلّ تأْوِيلٍ تضمّن فِيهِ مِقْدارا يجُوزُ تقْدِيرُهُ على خِلافِهِ؛ على أنّهُ قدْ رُوِي مِنْ طرِيقٍ لا بأْس بِها أنّ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم قال: «صلاةٌ فِي مسْجِدِي هذا خيْرٌ مِنْ ألْفِ صلاةٍ فِيما سِواهُ إلّا الْمسْجِد الْحرام؛ فإِنّ صلاة فِيهِ خيْرٌ مِنْ مِائةِ صلاةٍ فِي مسْجِدِي»، ولوْ صحّ هذا لكان نصّا.
المسألة الثّانِيةُ:
الْمساجِدُ وإِنْ كانتْ لِلّهِ مُلْكا وتشْرِيفا فإِنّها قدْ نُسِبتْ إلى غيْرِهِ تعْرِيفا، فيُقال: مسْجِدُ فُلانٍ.
وفِي صحِيحِ الْحديث «أنّ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم سابق بيْن الْخيْلِ الّتِي أُضْمِرتْ مِنْ الْحيْفاءِ وأمدُها ثنِيّةُ الْوداعِ، وسابق بيْن الْخيْلِ الّتِي لمْ تُضْمرْ مِنْ الثّنِيّةِ إلى مسْجِدِ بنِي زُريْقٍ» وتكُونُ هذِهِ الْإِضافةُ بِحُكْمِ الْمحلِّيّةِ، كأنّها فِي قِبْلتِهِمْ، وقدْ تكُونُ بِتحْبِيسِهِمْ، فإِنّ الْأرْض لِلّهِ مُلْكا، ثُمّ يخُصُّ بِها منْ يشاءُ، فيرُدّها إليْهِ، ويُعيِّنُها لِعِبادتِهِ، فينْفُذُ ذلِك بِحُكْمِهِ، ولا خِلاف بيْن الْأُمّةِ فِي تحْبِيسِ الْمساجِدِ والْقناطِرِ والْمقابِرِ وإِنْ اخْتلفُوا فِي تحْبِيسِ غيْرِ ذلِك.
المسألة الثّالِثةُ:
إذا تعيّنتْ لِلّهِ أصْلا، وعُيِّنتْ لهُ عقْدا، فصارتْ عتِيقة عنْ التّملُّكِ، مُشْتركة بيْن الْخلِيقةِ فِي الْعِبادةِ فإِنّهُ يجُوزُ اتِّخاذُ الْأبْوابِ لها، ووضْعُ الْإِغْلاقِ عليْها مِنْ بابِ الصِّيانةِ لها؛ فهذِهِ الْكعْبةُ بِأبْوابِها، وكذلِك أدْركْنا الْمساجِد الْكرِيمة.
وفِي الْبُخارِيِّ مُدْرجا، وفِي كِتابِ أبِي داوُد مُسْندا: «كانتْ الْكِلابُ تُقْبِلُ وتُدْبِرُ، وتبُولُ فِي الْمسْجِدِ، فلا يرُشُّون ذلِك»؛ ولمْ يكُنْ لِلْمسْجِدِ حِينئِذٍ بابٌ، ثُمّ اُتُّخِذ لهُ الْبابُ بعْد ذلِك، ولمْ يكُنْ ترْكُ الْبابِ لهُ شرْعا، وإِنّما كان مِنْ تقْصِيرِ النّفقةِ واخْتِصارِ الْحالةِ.
المسألة الرّابِعةُ:
مع أنّ الْمساجِد لِلّهِ لا يُذْكرُ فِيها غيْرُ اللّهِ فإِنّهُ تجُوزُ الْقِسْمةُ لِلْأمْوالِ فِيها، ويجُوزُ وضْعُ الصّدقاتِ فِيها على رسْمِ الِاشْتِراكِ بيْن الْمساكِينِ، فكُلُّ منْ جاء أكل، ويجُوزُ حبْسُ الْغرِيمِ فِيها، وربْطُ الْأسِيرِ، والنّوْمُ فِيها، وسُكْنى الْمرِيضِ فِيها، وفتْحُ الْبابِ لِلْجارِ، وإِنْشاءُ الشِّعْرِ فِيها إذا عرِي عنْ الْباطِلِ، ولا نُبالِي أنْ يكُون غزلا، وقدْ بيّنّا ذلِك فِي موْضِعِهِ.
المسألة الْخامِسةُ:
قولهُ: {فلا تدْعُوا مع اللّهِ أحدا} هذا توْبِيخٌ لِلْمُشْرِكِين فِي دعْواهُمْ مع اللّهِ غيْرهُ فِي الْمسْجِدِ الْحرامِ، وهُو لِلّهِ اصْطفاهُ لهُمْ، واخْتصّهُمْ بِهِ، ووضعهُ مسْكنا لهُمْ.
وأحْياهُ بعْد الْمماتِ على يدِ أبِيهِمْ، وعمرهُ مِنْ الْخرابِ بِسلفِهِمْ، وحِين بلغتْ الْحالةُ إليْهِمْ كفرُوا هذِهِ النِّعْمة، وأشْركُوا بِاللّهِ غيْرهُ، فنبّه اللّهُ ورسُولُهُ عليْهِمْ، وأوْعز على لِسانِهِ إليْهِمْ بِهِ، وأمرهُمْ بِإِقامةِ الْحقِّ فِيهِ، وإِخْلاصِ الدّعْوةِ لِلّهِ بِمعالِمِهِ. اهـ.